جلس على ضفاف ليلة تتشح السواد حزناً على فراقها،لاشيء يكسر صمت القبور الذي يجتاح المكان ليلتها،سوى صوت جرح قديم مازال يعوي بقلبه،تاه بين أرض حبلى بالموتى،وسماء هائمة،أخذ يجتر الألم،يغوص في قرارة الوجع،يصارع هيج الذكريات والأحزان،كما يصارع الدون كيشوت طواحين الهواء بسيفه الخشبي،بدا كبطل تراجيدي في مسرحية شيكسبيرية،يحاكي الخوف،ويبحث بين ردهات السماء عن طيفها أو بعضاً منها،كأهبل ينصت لصمت الأشياء راجياً أن تنطق إسمها،وكأرنب عجوز يهز أنفه للسماء،يشتم مزيج رائحة الغموض والحزن،وبقايا عطرها العالق به منذ أول لقاء كان بينهما.
لاأحد يأبه لأنينه وشكواه سوى جدران غرفته الكئيبة الصامتة،وشمعة تكاد تلقى حتفها بعد حين.
مازال يتذكر تلك الليلة اليتيمة حين رآها أول وهلة ،كانت تبدو كقطرة ندى نقية في صباح ربيعي،بابتسامتها التي تشبه ابتسامة رضيع،حينها لم يستطع تحديد الفرق بينها وبين بدر مكتمل كان يعلو السماء ليلتها،بدت شفتيها كالدر المكنون لمح فيهما هزيمته،تلعثم،تعثر بين نظراتها الطفولية النابعة من عينيها الشبيهتين بالنجوم،وهمسها الذي لايكاد يسمعه من شدة الدهشة،تعطلت لديه لغة الكلام،فكانت أول قبلة منها على خده كافية لتعلن ميلاده من جديد.
لاينكر أنها كانت أشجع منه لحظتها،وإن أراد أن يبدو أمامها عكس ذلك،حاول أن يستجمع شتات قلبه دون أن تعي به مختبئاً وراء ضحكة بلهاء خشية إكتشاف أمره.
دعاها للترجل قليلاً حتى ابتعدا عن مكان اللقاء،بدا وكأنه يكتشف المدينة لأول مرة،فهو لم يرى قط جمال المكان من قبل كما رآه تلك الليلة بصحبتها،أو لربما وجودها من زاد الفضاء جمالاً هكذا توقع.
بعد كل خطوة يخطوانها يمتزج كلامهما،تتشابك أيديهما،وينكسر القيد تلو الآخر،كان بين الفينة والأخرى ينظر لساعته اليدوية،يلعنها،ويتملكه خوف شديد من مرور الزمن،لأنه يعي جيداً أن هذا الأخير قاتل محترف،يصر أن يلعب دوره المعتاد في اغتيال الأوقات السعيدة،وهو الوحيد الذي يملك المقصلة الكفيلة بإعدام ذاك اللقاء الذي لم يحب أن تكون له نهاية،باتت أمنيته الوحيدة حينذاك أن يوقف أحدهما أو كلاهما الزمن الذي كان يجري ساعتها بسرعة البرق.
ماالسبيل إلى إيقافه أو على الأقل نسيانه يتسائل بداخله؟
فتجيبه بنفس سرعة الزمن بدعوته لإحدى الحانات،وكأنها قرأت تفكيره،أحس كمن تقول له الخمرة وحدها من ستنسيك الزمن سيدي.
سر لدعوتها،أخذا في الإبتعاد عن ضوضاء المدينة وأضواءها،قصدا إحدى الحانات المعروفة التي أصر قبوها أن يبتلعهما،أضواء حمراء خافتة تحجب عنك رؤية الآخرين،وصخب موسيقى يزعج الآذان،أجساد تتمايل،وأخرى تحترق في صمت كما يحترق وراء ضحكته،أخذا مكانهما في آخر الحانة،إرتخيا على أريكة بيضاء ناصعة كنصاعة بشرتها،بديا كعروسين يجلسان داخل هودج فوق سنم ناقة،توحدا في طلبيهما،قنينة فودكا،خمرته المفضلة،خاضا في أحاديث شتى،كانت كلما تكلمت هي نسي صوته،عبا نخب لقاءهما الأول،غنيا،رقصا،كانت تبدو له كغجرية متمردة ترقص للريح،أو كممثلة قادمة من زمن المارلين مونرو،سرقا القبل واللمسات،تعانقا بين الحين والآخر،إنصهرا،وانكسر آخر القيود.
مع كل كأس خمرة ينقرانه كانت تزداد جمالاً بعينيه،لم يعد يسمع من صخب الحانة سوى همسها الذي عشقه فيها توالت الساعات التي لم يعد يحسها برفقتها،نسي النظر في ساعته التي لعنها من قبل لسرعتها الجنونية سبح ونديمته في فلك بعيد،غاصا في أعماقه،إستئنسا به لم تخرجهما منه سوى تصفيقات حارس الحانة الذي ينبه بها السكارى بإنتهاء الليلة حسب توقيت المجون.
وكما ابتلعتهما الخمارة قبل سويعات لم يعد يعي عددها،لفظتهما للخارج متشابكي الأيدي،يتبادلان الإبتسامات وينشدان لحن العشق.
ماكان يشغل تفكيره حينها هو سبيلهما للمجهول،فهما لم يحددا بعد كيفية إتمام سهرتهما،سطر في عقله خارطة طريق إلى جسدها الخارق،وبدون مقدمات وبجرأة لم يعهدها فيه دعاها لمشاركته سريره،عرض عليها أن تكون إلهته تلك الليله،سيعبدها كما لم تعبد امرأة من قبل،يتوضأ برذاذها،يتوجه صوب قبلتها،ويصلي داخل محرابها،كانت نظرة واحدة من عينيها وابتسامة إشارة لقبولها،فرح كما يفرح الغريب للوطن،سارا في إتجاه سرير يوحد رغبتهما،إمتزجا،تحررا،إحتضرا حتى الجنون،إحترقا في جحيم الغواية،كانت له الأنثى التي لم يحلم بها يوم قط،
في صباح اليوم الموالي إستيقظ على نسمة نداها،شعر وكأنه أول صباح من عمره تبادلا الإبتسامة،وهي ترتدي ملابسها،طبعت على شفتيه قبلة صباحية كأنها الشهد،فأخرى،فكانت آخر قبلة تعلن نهاية لقائهما،على رصيف محطة القطار الذي سيأخذه إلى هنا،حيث هو اللحظة،في حالة كسوف كلي،يعتصر الوهم ،يتلذذ بمضغ ذكراها،ومنذ لحظة فراقهما مازال ينظر إلى فراشه كل صباح،لعله يعثر على أثرها بجانبه،وبعدما يتيقين أن لاوجود لها يتوهم أنها غادرت الفراش قبيل استيقاظه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire