05 mai, 2012

الحانة القديمة

١

الطريق إلى الخمارة القديمة،يمر عبر زقاق ضيق طويل،تتوسطه بيوت عالية تتفاوت في لون طلائها الخارجي.
ككل مساء أنثر خطواتي للوصول إلى هناك،ألج الخمارة،روادها كبؤساء فيكتور هيجو،مصطفين على رصيف الحياة،مطأطئي الرؤوس من شدة الثمالة،وقناني البيرة الرخيصة تؤتث طاولات مهترئة تصدر أزيزاً مزعجاً كلما هم نديمها بالحراك.
هنا السكارى كإسفنجة أبي مظفر النواب في قصيدته (الحانة القديمة)
***********************
المشربُ ليس بعيداً
ما جدوى ذلكَ، فأنتَ كما الاسفنجةِ
تمتصُ الحاناتِ ولا تسكر
*******************************
هكذا أجد بؤساء هيجو المساكين،منهم من يحاول فقدان الوجود فلا يستطيع،ومنهم من خرج للتو من معركة عاطفية بقلب متورم،ومنهم من يحاول أن يتحرر من رائحة عطر إمرأة لازال عالقاً بأنفه،ومنهم من سقط ضحية عاهرة من الدرجة الثالثة يحدد وإياها سعر ليلة على فراش يجمع جسديهما ويوحد نتانتهما.

٢
في ركن منزو من الحانة،تقبع فتيحة،بلغت من العمر أعتاه،قضت معظمه في تغيير الرجال والأسرّة،أضحت خبيرة عالمها الليلي وكائناته،تعرف رجاله،نساؤه،شواذه،عاهراته،قواديه،قائميه متجهديه،معتكفيه،وحيواناته الليلية،من يبحث عن حسنة،ومن ينقب عن لذة عابرة.
بعدما لم تجد عالماً يتسع لأحلامها باتت فتيحة تنفث كل شيء مع دخان سيجارتها الرخيصة،حتى أضحت مجرد جسد مزقته آلة الزمن،وجه بلا ملامح جسد بلا روح لاينتشي ولايتأوه.
لكل فلسفته للحياة ولكل نظرته لها،المهم أن نتعايش،أن نعيش،وندع الآخر يعيش،هكذا حدثتني فتيحة ذات ليلة بعد أن أخذت نفساً طويل من سيجارتها(اللوكا) عشقها الأول والأخير،لاأعرف لما تذكرني دوماً فتيحة بسيدوري صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش؟ ربما لأن كليهما تنطقا بحكمة.

٣
وجوه بلا ملامح مرت من هنا،وأخرى عابرة،وجوه تشبهني،ومثيلاتها رحلت في صمت،ووجوه تأبى أن تفارق مخيلتي.
لازلت أتذكر إدريس،شاعر المدينة البوهيمي وزبون الحانة الوفي،ببذلته الخضراء الكلاسيكية،وتسريحة شعره العجيبة التي تشبه إلى حد ما تسريحة قدماء نجوم السينما،لم يكن إدريس يبرح مكانه بالحانة،كانت بمثابة بيته الثاني ومأواه الأبدي،بداخلها ألف اشعاراً،وعلى طاولاتها سطر خواطراً،لاينطق إلا شعراً،جالسته غير مامرة ،تلا على مسامعي آلاف الأبيات الموزونة التي كان يدونها على ورق يلتقطه من الأرض ليعيده إليها بعد أن يقتنع أن الشعر لايشتري خبزاً،هكذا حدثني يوماً،قبل أن يرحل ذات ليلة باردة ممطرة،دون أن يودعنا ودون أن ينال من الحياة نعمها،سكت إدريس عن الكلام،توقفت كلماته في حلقه،لم تعد أشعاره تؤتث فضاء الحانة كما عهدناها،هو الموت أصر أن يحمله إلى هناك حيث الصمت الابدي.

Aucun commentaire: